موقع خريستو المرّ
Arabic | English
  • الصفحة الرئيسة
  • كتب
  • محاضرات
  • الإيمان والحياة اليوميّة
  • فلسطين
  • التزام شؤون الإنسان
  • الإيمان والثقافة
  • كلمات
  • خريستو المرّ
  • مواقع صديقة

مدوّنة الثلاثاء

عكس الإيمان هي الطائفيّة وليس الإلحاد

8/9/2022

0 Comments

 
خريستو المرّ
الثلاثاء ٩ آب / أغسطس ٢٠٢٢
 
والقلب على فلسطين الجريحة الأسيرة أكتب عن لبنان. في لبنان، لا حقّ. الكلام حول لبنان-الرسالة "كليشيه" يجمّل بشاعة النظام السياسيّ لهذا البلد الجميل، وبالتالي يخدّر الممارسة السياسيّة الضروريّة لنخرج من الطائفيّة، من هذا النظام السياسيّ الطائفي المدمّر الذي رتّبه المستعمر العلمانيّ لكي يُبقي على وسيلة يمارس من خلالها سيطرته. في لبنان، لا حقّ. الطائفيّة تأكل كلّ حقّ.
الطائفيّة تأكل كلّ إيمان باسم الدين.
كلّما طاف على سطح اليوميّات اتّهام لشخص أو مجموعة بالتفريط بالمال العام أو بالمال الخاص (مال المودعين) تجنّد بطريرك ومطران من هنا، ومفتي وشيخ من هناك، ليضرب بالإيمان عرض الحائط في سبيل "كرامة" الطائفة، فيضع خطًّا أحمرًا أمام استدعائهم للتحقيق. بخالف رجال الدين أسس إيمانهم من أجل الطائفة، والكلّ يعلم أنّ الطائفة لا تستفيد ولا تتكرّم بالطائفيّة، وإنّما الطائفيّة وسيلة استفادة ماليّة و/أو سلطويّة للمتنفّذين فيها فقط، ووسيلة تخدير ونزاع يستخدمها المتنفّذون لمحاربة بعضهم البعض على المال والسلطة.
انفجار ٤ آب ٢٠٢٠ ذهب دون عقاب ودون معرفة لحقيقة، كما توقّعنا. سنتين على الانفجار دون تقدّم يذكر. هناك اتّهامات مجانيّة، أخبار و"تحقيقات" تطلقها وسائل إعلاميّة مشتراة من أجهزة خارجيّة، ولا حقائق. القضاء ممسوك سياسيّا إلى حدّ كبير، والسياسيّون يصونون أنفسهم وأتباعهم من الملاحقات، وهم مدركون أنّ القضاء ممسوك من السياسيّين لأنّهم يعلمون ماذا فعلوا، وكيف زرعوا الأجهزة القضائيّة بأتباعهم. الكلّ يطالب بالتحقيق على أن يصل التحقيق إلى الاستنتاجات التي هو يريدها. إن لم يتصرّف القضاء كما يريد هذا الحزب أو ذاك، توقّفت عجلة العدالة المكبّلة أصلا. الأحزاب الطائفيّة نخرت الجسم القضائيّ لأنّها لا تثق ببعضها البعض وتتنافس على المغانم نفسها والسلطة نفسها. وانعدام الثقة هذا، هو الذي يدفعها إلى رفض تطبيق العدالة في أيّ ملفّ ما لم تضمن مسبقا نتائجه. الواقع، من الزاوية الإيمانيّة، أنّ المتكلّمين باسم المسيحيّين والمسلمين مدفوعين بحكم النظام الذي يشتركون بالدفاع عنه، هذا النظام المولّد لانعدام الثقة وللتنافس على المغانم، مدفوعون دفعًا إلى خيانة كلّ مبادئ إيمانهم التي تتطلّب ضرورة العدل وإحقاق الحقّ للمظلوم. المتكلّمين باسم المسيحيّين والمسلمين سياسيّين ورجال دين، هم أسرى هذه التركيبة الطائفيّة التي يحمونها بحكم العادة وبحكم الاستفادة.
تاريخ الأديان المعاصر يضع الإلحاد في مواجهة الإيمان، وكأنّ الإلحاد هو الوضع المعاكس للإيمان. هذا التواجه خطأ إيمانيّ فادح. الإلحاد ليس عكس الإيمان ولا هو ضدّه، فقد يكون الإنسان ملحدًا فكريّا بالله، ولكنّه يعمل عمليّا كلّ الأعمال الصالحة التي من المفترض أن يفعلها المؤمن؛ وقد يقول الإنسان عن نفسه بأنّه مؤمن ولا يفعل من تلك الأعمال شيئًا. الإلحاد ليس هو عكس الإيمان أو ضدّه، عكس الإيمان وضدّه هو الإيمان الظاهريّ، الإيمان المنافق، الإيمان الذي يحوّل الله نفسه إلى وسيلة قمع واستغلال، واستفادة شخصيّة وجماعيّة. من هذا المنظور الطائفيّة هي ضدّ الإيمان، هي معادية للإيمان، لأنّها تشوّهه وتحوّله إلى عصبيّة دينيّة هدفها استمرار الجماعة الدينيّة بغضّ النظر عن علاقتها بالله (الكراهيّة الطائفيّة خير دليل على إرادة الاستمرار بانفصال عن الله).
لا يمكن ان نشهد جوّا يسمح بصفاء في العلاقة مع الله ومع الآخر في المجتمع في ظلّ النظام الطائفيّ. الإيمان نفسه يدلّنا أنّنا يجب أن نتخلّص من النظام الطائفيّ لنبني نظاما علمانيًّا، أي غير طائفيّ، مثل الأنظمة الأخرى الموجودة حول العالم والتي عندما يلجأ إليها اللبنانيّون واللبنانيّات يمكنهم – إن تحرّروا من سمّ الطائفيّة في وطنهم الأصليّ- أن ينعموا بنعمة التعامل مع الآخر كإنسان فريد، أي يمكنهم أن يتعاملوا معه كوجه.
الملحد يمكنه أن يرى الوجوه، ويصعب على الطائفيّ، ذاك المؤمن الظاهريّ المنافق، أن يراها، فهو مشغول بالكراهية والاستغلال، أي مشغول بذاته الفرديّة وصورتها الضخمة الجماعيّة. إنّ مرور جملٍ من ثقب إبرةٍ أسهل من أن يدخل طائفيّ ملكوت الوجوه. مَن يتجاوز الطائفيّة يرَ الوجوه، وبالوجوه يكتب قصائد علاقاته الإنسانيّة. أبجديّةُ الحياة مع الله هي الوجوه، آمن الإنسان أم لم يؤمن.
0 Comments

المحبّة والغفران والعدالة: في التفكير حول العملاء

8/2/2022

0 Comments

 
خريستو المرّ
الثلاثاء ٢ آب / أغسطس ٢٠٢٢
​

كلام البطريرك بشارة الراعي عن الامتناع عن تسمية الذين تعاملوا مع إسرائيل وأداروا معتقلاتها بأنّهم عملاء مثير أقلّه للعجب. إذ أنّ هؤلاء نكّلوا باللبنانيّين واللبنانيّات الذين كانوا تحت الاحتلال. قد لا يكون كلّ واحد منهم مسؤولًا، أو مسؤولًا بنفس الدرجة، وقد لا يكونوا وحدهم العملاء في هذا البلد، فتصرّفات بعض السياسيّين توحي بأنّهم عملاء: لـِمَ يصرّ البعض على نزع السلاح الوحيد الموجود، بينما لم تستطع ولا تستطيع بلادنا تسليح جيشها بشكل سليم، وبينما تعانق الدول العربيّة خيانة العدالة بالتطبيع مع اسرائيل التي تقتل الفلسطينيّين يوميّا والتي هدّدتنا وتهدّدنا، واخترقت وتخترق أجواءنا، وأقامت معتقلات تعذيب أهالينا في الثمانينات ومستعدّة لتقيمها في المستقبل، والتي تريد سرقة ثرواتنا النفطيّة علنًا؟ ثمّ أين هو تاريخ جرائم اسرائيل بحقّنا في كتب التاريخ؟ أين هو في إذاعاتنا؟
بلد مليء بالعملاء في الخفاء في كلّ مكان، والبطريرك يريد أن يحرّم استعمال الكلمة للعملاء في العلن، وهو الذي يحمي علنًا حاكم المصرف المركزي. هذا إنسان يداه ملوّثتان بما تلوّثت به يدي حاكم المركزي ويريد أن يحرّم ويحلّل بالعمالة! مهزلة كاملة. لو أنّ جارنا عبد الله أعطى رأيه بالعمالة لكان ذنبه أقلّ فهو ليس شريك في سياسات رياض سلامة وإنّما ينزف من مخالبها.
الغفران في المسيحيّة لا يعني أن تترك الإنسان يفعل ما يشاء وألّا تحاسبه. هذه فكرة متداولة فقط عندما يكون المرتكِب والمجرم رجل دين من طائفتنا أو عندما لا نأبه لغيرنا ومصيره. فعندما صرخت مجموعات في الكنيستين الأرثوذكسيّة والمارونيّة حول ارتكابات بعض الكهنة والرهبان بحقّ الأولاد والناشئين، قالت العقول الخانعة أنّ المسيحيّة تطالبنا بالغفران، تكلّموا عن الخطيئة والغفران ليقولوا يجب ألّا نفعل شيئا بحقّ المرتكِبين. هذا تفكير يخالف المفهوم المسيحيّ للغفران. الغفران بين الناس هو القدرة بأن تفتح صفحة جديدة مع شخص عاد عن أخطائه ودفع ثمنها. أمّا الله فيغفر للجميع مَن تابوا، أي مَن أرادوا أن يعودوا عن ارتكاباتهم. الكنيسة لديها مجموعة قوانين داخليّة شائكة، لو أنّها تفكّر بأنّ الغفران هو ألّا تفعل شيئًا وألّا تحقّق عدالةً، لما كانت سنّت قوانينها الداخليّة. دَفْعُ المرتكب لثمن ارتكاباته هو جزءٌ أساس من إحقاق العدالة للضعيف الذي نحن ملزمون به مسيحيًّا. بالنسبة للعملاء الغفران يقتضي أن يعترفوا بعمالتهم، ومَن ارتكب يدفع ثمن ارتكاباته بحسب قوانين الدولة، وعندها للمجتمع أن يقبله. الكنيسة تقبله دائمًا، ليس لكي توافقه على جرائمه، وإنّما لتذكّره بأنّ جرائمه هي جرائم، وبأنّه قادر ومدعوّ على التراجع عنها والاعتراف بها، وأنّ جدّية التراجع تقتضي تحقيق العدالة للمظلوم، وبالتالي تقتضي أن يدفع الثمن. لقد قيل بحقّ أنّ الكنيسة هي كنيسة الخطأة الذين يتوبون. الجميع خطأة، ولكن ليس الجميع يتوبون، والكنيسة دورها التذكير بضرورة التوبة، أي بضرورة العودة إلى محبّة الله، ودورها أن ترعى تلك العودة بالدعوة لتحقيق العدالة التي تفترضها المحبّة كدليلٍ جدّيٍ وملموسٍ للعودة إلى الله.
المطران والبطريرك عليهما تذكير المرتكبين بأنّ العمالة جريمة؛ ليس لأنّ المجتمع يقول ذلك، ولكن لأنّ العمالة تعني الاشتراك مع قاتل في سحق إنسان من أجل الفائدة الشخصيّة. وهنا تكمن خطيئة العمالة.
المحبّة التي تغفر، تغفر لذاك الذي يعترف بجرائمه، والذي يريد أن يدفع ثمنها بطريقة تحقّق للمظلوم عدالة. لا يمكن العمل الصحيح للبطريرك بتبييض الجريمة والخطيئة وجعلهما «طبيعيّين»، و«حلالًا»، وإنّما أن يذكّر الناس بطرق التوبة: الاعتراف بالخطيئة والعودة عنها إلى الله، وترجمة تلك العودة بتحقيق العدالة للمظلوم. الفاجعة أنّ هذا بديهي، وأنّ بطريركًا احتاج لعلمانيّ أن يذكّره بالبديهيّات لتراجع إحساسه بضرورة العدالة.
0 Comments

رجال الدين والقانون: قضيّة المطران موسى الحاج

7/26/2022

0 Comments

 
خريستو المرّ
الثلاثاء ٢٦ تمّوز / يوليو ٢٠٢٢

اعتاد المسؤولون الرسميّون في الكنائس في لبنان الدوس على القانون، من بطاركة ومطارنة (دون أن نشمل الجميع) يسعون لحلّ أمور جرميّة بحسب ما يرتأون لهم. وما طفا على السطح في السنوات الأخيرة أنّهم سعوا لحماية ناهبي الدولة والناس في لبنان، وهادنوا ويهادنوا جرائم أنظمة المنطقة، وحموا ويحموا مغتصبيّ الأطفال والمراهقين من الملاحقة القانونيّة. وها أنّ المطران الياس عودة، يعتبر أنّ استدعاء مطران للتحقيق "يُنذر بوجود نهج جديد في التعامل الأمني والقضائي يؤدي إلى تداعيات خطيرة على مستوى الوطن، وهذا أمر خطير ومرفوض ونأمل عدم تكراره". في بلد كلبنان، العادة فيه تكمن في تسوية القانون بالأرض، ويحمي فيه رجالُ الدين زملاءَهم عندما يغتصبون ويتحرّشون من أيّة ملاحقة قضائيّة، لا يمكننا إلّا أن نرى بأنّ التعامل مع الحاج غير اعتياديّ، ولا يمكن أن يُفهَم إلّا "استفزازًا" في بلد يضرب فيه السياسيّون ورجال الدين من الأديان جميعًا بالقوانين عرض الحائط، أو يشتكون من تسييس القضاء بعدما يكونوا قد شاركوا في تسييسه. إنّ كلام المطران عودة لا يعني سوى أنّه يعتبر أنّ رجال الدين فوق القانون العادل، وفوق الدولة، وفوق المجتمع.
عدا اعتبار رجل الدين لأنفسهم أنّهم فوق القانون، فإنّ الأمر الكارثي الآخر في قضيّة المطران الحاج، هو أنّ العديدين لا يرون مشكلة في التعامل مع كيان الاحتلال. فها أنّ سياسيّ محسوب على «المسيحيّين» يذكّر على التلفاز بأنّ «المسلمين» في الخليج بدأوا بالتطبيع مع الاحتلال ويتساءل عن موقف الرئيس "المسيحيّ" المقبل؟ وهو يوحي، دون أن يعترف صراحةً، بأنّه حان موعد انغماس لبنان في جريمة التطبيع. هذا ليس تفصيلًا هامشيًّا، هذا موقف سياسيّ لجماعات لبنانيّة من الطوائف جميعًا تدّعي منذ سنوات "حبّ الحياة"، ولا ترى ما يستوجب النقد في المنطقة إلّا أعداء اسرائيل. وها أنّ البطريرك الراعي يرعى في العملاء الهاربين إلى إسرائيل "رسالة"! رسالة ماذا بالضبط؟ لا يشرح.
يقول يسوع أنّ "ليس كلّ من يقول يا ربّ يا ربّ يدخل ملكوت السماوات، وإنّما الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات". دولة الاحتلال هي دولة استعماريّة مبنيّة على التمييز العنصريّ، وتستمرّ بالاحتلال والتنكيل والتمييز العنصريّ والقتل والاعتقالات والتدمير الممنهج، ويعرف كلّ عاقل، كما وكلّ مسيحيّ، أنّ هذه ليس إرادة الله كما يعكسها الانجيل. مَنْ وضع يده في يد تلك الدولة، وقف ضدّ الضعيف والمهمّش، ولذا لن تجد يده يدَ يسوع وإنّما يدًا ضدّه.
المطران الحاج يمثّل الكنيسة المارونيّة في مجلس رؤساء الكنائس الكاثوليكيّة في فلسطين والمجلس أصدر بيانا واضحا منذ سنوات يقول فيه "إنّ موقف الكنيسة هو التزامُ العدل والتنديد بكلّ ظلم"، وأنّه يجب أن يتجنّب المسيحيّون إقامة "نشاطات توحي وكأنّ الوضعَ طبيعيّ" مع دولة الاحتلال الظالمة. هذا بيان ليس فقط ضدّ علاقات طبيعيّة، وإنّما ضدّ أيّ نشاط يمكن أن يوحي بأنّ العلاقات طبيعيّة. إنّ المطران الحاج ملزم معنويّا بأن يتجاوز القوانين اللبنانيّة، ليكون أكثر جذريّة وذلك بالابتعاد حتّى عمّا يوحي بالتطبيع. ولكن قضيّته انتهت دون نقاش مفتوح في المجتمع حول التطبيع، فالمستفيدون في الطوائف يرتاحون بإغلاق كلّ نقاش يمكن أن يهدّد مزاياهم وتنصيبهم لذواتهم «سوبر» مواطنين يعلون مجتمعهم.
كلّ المطارنة والبطاركة والشيوخ وحاملي الألقاب المختلفة، هم في النهاية رجالٌ (النساء استثناء) يعملون في وظائف محدّدة في أديانهم وطوائفهم، ومن واجبهم احترام القوانين العادلة لمجتمعهم مهما كان احترام أيّ إنسان آخر لها. أليس من المفترض أن يكون هؤلاء قدوة؟
0 Comments

لبنان والتطبيع

7/12/2022

0 Comments

 
خريستو المرّ
​الثلاثاء ١٢ تمّوز / يوليو ٢٠٢٢

هناك وهم قائم في ذهن الكثير من اللبنانيّين مفاده أنّ دولة العدوّ الصهيونيّ المحتلّ الغاصب، الذي يقتل يوميًّا الفلسطينيّين بلا سبب، ويسجنهم دون رادع ودون محاكمات، كانت تضرب قرانا ومواطنينا فقط بعد اتّفاق القاهرة، الذي سمح بالعمل الفدائيّ أن ينطلق من لبنان. هذا الوهم موجود لأنّ الدولة بنظامها التربويّ والسياسيّ والخادم للمتموّلين فقط، عملت جهدها كي تخفي أخبار المجازر التي قام بها جيش الاحتلال الصهيونيّ في لبنان. وعملت جهدها أن تخفي من النظام المدرسيّ أنّ قرية حولا، مثلًا، دمّرها جيش الاحتلال وسوّاها بالأرض وقتل ٩٤ شخصا من أهلها عما ١٩٤٨. ماذا تشعر الآن أمام هذا الواقع؟ إن كان عقلك كعقل الأكثريّة مغسولًا بطريقتين: الطائفيّة والدعاية الرجعيّة اليمينيّة اللبنانيّة، فسيمنع عنك أن تشعر بتعاطف عميق وصادق مع بشر قُتِلوا إن لم يكونوا من طائفتك، وبسبب ثقافته الرجعيّة الفاشيّة لن يجد ما يقوله سوى أنّه لو لم يخض لبنان الحرب لما فعلت عصابات الاحتلال ما فعلت في حولا. إنّ عقل كهذا، مستعدّ أن يبرّر مجزرة بحجّة «الحرب»، مع أنّ ارتكاب المجازر يُعاقَب عليه حتّى في الحروب. إنّ هكذا عقل قد يعبّ اليوم من خيرة المفكّرين الأوروبيّين المعاصرين، ويُطالِب بتطبيق كلّ القوانين المحلّية والدوليّة بحق مَن كان مسؤولًا انفجار مرفأ بيروت، ومَن ارتكب ويرتكب المجازر في سوريا، ويفرح بمحاكمة جزّاري النظام السوريّ في أوروبا، ولكنّه يُخفّف تلقائيّا من هول مجزرة حولا التي كان يجهلها لأنّ بلاده ربّته جاهلًا لتاريخه، وطائفته ربّته ألّا يلتفت بحماس إلّا لشؤون قبيلته، وأن يصمت ويحترم كراسي السلطة، ويطيع البطاركة والمطارنة والشيوخ المتربّعين مَنْ عليها.
إن تابعنا التاريخ غير الوهميّ، وهو غير ذاك الذي تريده الدولة الخادمة لمصالح المتموّلين وزملائهم من رجال الدين، نعلم أنّ العدوّ قام ب ١٤٠ اعتداء ضد لبنان بين عامَي ١٩٤٩ و١٩٦٤ قبل وجود منظّمات فلسطينيّة ومقاومة من أيّ نوع. وفي ٢٤ تمّوز ١٩٥٠ طاردت طائرة مقاتلة إسرائيليّة طائرة مدنيّة لبنانيّة تطير فوق الأجواء اللبنانيّة آتية من القدس الشرقيّة، وعلى متنها ركّاب من مختلف الجنسيّات، ثمّ أطلقت عليها النار لتقتل فيها ركّاب وأعضاء من الطاقم، وتتناثرَ أشلاء القتلى والجرحى داخلها (وقع قتيلين و٧ جرحى، من الجرحى طفلةٌ اضطرّ الأطبّاء إلى بتر ساقها). ماذا كان موقف "المجتمع الدولي" في لجنة الهدنة؟ "أن يعتذر الفريقان من بعضهما البعض"! هذا هو المجتمع الدولي الذي يريد أن يلجأ إليه لبنانيّون لتحقيق السيادة (ومنها على النفط والغاز)، والعدالة، والسلام. (الشكر للزميل أسعد أبو خليل على أضاءته على تلك الأرقام والأحداث). لن نتابع احتلال بيروت، مخيّمات الاعتقالات والتعذيب مجازر صبرا وشاتيلا، تدمير البنى التحتية، والخرق اليوميّ للسيادة من الطائرات الحربيّة. إن تكن القذائف لم تنزل على رأسي شخصيّا، فذاك لا يعني أنّها لم تنزل على رؤوس مواطنيّ، وأهلي لم يموتوا تحت ركام منازلهم ومبانيهم فلا يعني ذلك أنّ آلف الأهالي لم يُقتَلوا، وأنّ سيادة بلادي لا تنتهك يوميًّا، تلك السيادة التي ينساها مدّعو السيادة عندما ينتهكها مَنْ يخدمون مصالح إسرائيل.
وبينما هذا هو تاريخنا غير الوهميّ مع ذاك العدوّ، يتكلّم البعض على خُطى بطريرك رياض سلامة وسائر المصارف، عن الحياد؛ ويتكلّمون في الوقت نفسه عن السيادة. لا توجد دولة في العالم تقف من انتهاك سيادتها وقتل مواطنيها موقف الحياد، لا توجد دولة محايدة تجاه ذاتها! هكذا دولة لا تستمرّ كدولة. فكرة الحياد بحدّ ذاتها نابعة من ضمير لا يرى ولا يريد أن يرى طبيعة نظام الاحتلال والعنصريّة القائم في فلسطين المحتلّة، ولا يريد أن يرى التاريخ الذي نذكّر به هنا. لا شكّ أنّ في ذهن القارئ تشرئبّ كلمة الواقعيّة بين عجيج الكلمات، والشتائم ربّما. ولهذا لا بدّ من كلمة مسهبة عن الواقعيّة.
الحقيقة، ولهذا أكتب هذه الفقرة الأسبوعيّة، أنا لست واقعيًّا. أنا ربّتني حركةٌ شبابيّة في كنسيةٍ أرثوذكسيّةٍ أساس إيمانها هو اللاواقعيّة: إلهٌ أحبّ الإنسان في واقعه المأساويّ وبكلّ لاواقعيّة صار إنسانًا اسمه يسوع مشاركًا إيانا واقعنا المأساويّ. هذا الإنسان، يسوع، واجه بمنتهى اللاواقعيّة أعتى سلطة دينيّة في مجتمعه، وفضح نظامها القائم على احتقار الناس واستغلالهم (الوقت ضيّق لذكر الأحداث الآن)، فاتّهمته عائلته نفسها بالجنون، ولفظته السلطة التي تمتلك كلّ وسائل القمع الفكريّ والعسكريّ، وقتلته ككلّ لاواقعيّ خارج أسوار المدينة الظالمة. لكنّ اثني عشر رجلٍ لاواقعيٍّ ومجموعةٍ من النساء اللاواقعيّات (لا نعرف العدد بالتحديد) تبعوه. هؤلاء لم يكونوا ليوحوا إلّا بالفشل والجنون، ولم يكونوا ليثيروا سوى السخرية، لم يكونوا عالمين بأثر ما سيفعلونه، ولكن كان ملحّا عندهم، وبكلّ لاواقعيّة، أن يشهدوا لما رأوه من حقّ، ولو قال أحدهم وقتها أنّ بضعة رجال ونساء سيقلبون ثقافة الامبراطوريّة الرومانيّة ويتركون تراثًا ما يزال يفخّخ كلّ سلطة دينيّة وسياسيّة لقالوا عنه مجنون أو لاواقعيّ. لكنّ تلك اللاواقعيّة غيّرت واقع هذا العالم إلى الأبد، والصراع اليوم، في قلب الكنيسة وفي قلب العالم، ما يزال مستمرًّا بين تلك النفحة اللاواقعيّة الشاهدة للحقّ ولضرورة رفع الظلم عن الإنسان، وبين تجربة الحياد والواقعيّة. أنا أنتمي لذلك التيّار اللاواقعيّ، وأدين بكلّ وضوح كلّ واقعيّي العرب، من المحيط إلى الخليج. وبالنسبة للمسيحيّين أقول بأنّ الكنيسة هي كنيسة اللاواقعيّين أساسًا، مَن كان واقعيّا جعل نفسه خارج الكنيسة، لأنّه لم يعد يؤمن بشيء ممّا علّمه ذاك المصلوب المعلّق على خشبة والذي سمّته وتسمّيه الكنيسة بكلّ لاواقعيّة: الغالِب!
الحقّ في فلسطين سيكون الغالب، من أجل ذلك يعمل اللاواقعيّون دون انتظار. من الإيمان الذي ربيت عليه أنّ انتظار الملكوت لا يكون بالتمنّي والفتور وإنّما هو انتظارٌ فاعلٌ، انتظارٌ عاملٌ على إعداد هذه الأرض لتصير حاضرة لاستقبال الحبيب يوم يأتي. كما يعدّ أيّ حبيب بيتَه لحبيبته بانتظار الزيارة، نحن أيضًا بعملنا من أجل كلّ عدالة وحقّ وحبّ وحرّية، نعدّ هذه الأرض كي تصبح يومًا مستعدّة لاستقبال ملك الحبّ والحّرية والحقّ، فيبدأ الاحتفال.
في زمن واقعيّة الانبطاح أمام القوّة الظالمة، أتمسّك برؤيتي اللاواقعيّة التي وجدتها ووجدتني في عيني المعلّق على خشبة، وأدعو مَن يشاء أن يتمسّك بها، ففي عيني سيّد المحبّة الخلّاقة اللاواقعيّة الطريقُ والحقّ والحياة.
0 Comments

التسلّط

7/5/2022

0 Comments

 
خريستو المرّ
الثلاثاء 5 تمّوز / يوليو ٢٠٢٢
 
لن أتكلّم هنا عن التسلّط السياسيّ الأكثر تعقيدًا، بل عن التسلّط في العلاقات الشخصيّة حبّ، صداقة، أبوّة، أمومة، زمالة، وظيفة.
يظهر التسلّط عند اختلاف آراء الأفراد، أي هو يظهر أساسًا بسبب تمايز فرادات الناس. عندها، واحدٌ يريد أن يفرض رأيه، يريد للآخرين أن ينكسروا لكي يسود رأيه بالقوّة؛ هو يريد محو الفارق بين الفرادات لكي تسود نسخة واحدة: هو. في العمق التسلّط عجز، عجز المتسلّط عن القدرة على الحوار والمحاججة والإقناع، وعجزه في النهاية عن احتمال تمايز الأشخاص، عن احتمال الهوّة التي لا يمكن ردمها مطلقًا بين إنسانٍ وآخر، هذه الهوّة التي فيها يكمن سرّ الشخص، سرّ أنّ كلّ منّا هو بشكل مطلق متمايز عن الآخرين. الآخر ليس أنا، ولا يمكنه أن يكون انا، ومن الأفضل لي ألّا يكون أنا وإلّا صار العالم عبارة عن أنا متضخّمة وضَعُفَت إمكانيّة أن أغتني، وتضاعفت إمكانيّة أن أجد نفسي معزولاً دون آخر فعليّ غير شكليّ. لكنّ المتسلّط يخاف من الوحدة لدرجة أنّه يوقع نفسه في العزلة: يخاف أن يقف بنفسه مع نفسه وحيدًا في رأيه، فيريد للآخرين أن ينصاعوا كي يطمئنّ أنّه ليس وحيدًا؛ فتكون النتيجة أنّه بتسلّطه يصبح معزولًا بعد أن يكون قد أغلق على نفسه وأصبح العالم مرآته. المتسلّط يخاف من تمايز الفرادات. يريد الوحدة بأيّ ثمن، يطلبها بالطاعة القسريّة فيخسرها، ثمّ يخسر نفسه التي تفتقر بعزلتها. هذا الوضع جحيم فعليّ، يولّد جحيمًا حوله لدى مَن هو مضطرّ أن يخضع لعنف المتسلّط، معنويّا كان العنفُ أم مادّيًا. ولهذا يزيد المتسلّط تسلّطًا، فهو في عزلة تتضاعف مع زيادة منسوب الطاعة القسريّة، فيندفع لمزيد من تخفيفٍ لوجع العزلة بطلب مزيدٍ من وهم الوحدة، أي بمزيد من التسلّط، الذي يوقعه بالمزيد من العزلة، في دوّامة جحيميّة.
هذا في أفضل الأحوال، أي عندما تسلم النيّات. فبالطبع، هناك لعبة المصالح، والإنسان قد يتوسّل التسلّط سبيلًا للوصول إلى تحقيق فائدة ماليّة، أو معنويّة، يريدها. أي أنّ التسلّط لا ينبع فقط من عجز عن الحوار واحتمال الفرادات، هناك تسلّط نابع من الرغبة العارية باستغلال الآخر لتحقيق مصلحة. المتسلّط عندها مدفوع برغبةٍ لا يمانع من أجل تحقيقها من تدمير علاقته بالآخرين، وتدمير الآخرين، أو تشييئهم وتشييء ذاته بتحويلهم وتحويل نفسه إلى أدوات للمكاسب، على حساب تجفيف ذاته وحرمان ذاته من العلاقات الإنسانيّة، أي على حساب عزلته، وهي عزلة قائمة حتّى ولو كان وسط الحشود. أقلّ ما يُقال في رغبة الكسب والمصالح تلك أنّها لا عقلانيّة، لأنّها مدمّرة للإنسان، وللطبيعة عندما تكون هي موضع الاستغلال من أجل الكسب.
من هنا، ففهم العلاقات الكنسيّة التسلّطيّة يحتّم علينا دائمًا أن ننظر على مستويين: مستوى شخصيّة المتسلّط، ومستوى المكاسب التي يسعى إلى تحقيقها؛ وإن لم تكن المكاسب هي المحرّك الأساس للتسلّط، فهي تشكّل بالتأكيد مخدّرا مناسبًا لألم الشعور بالعزلة. ولا بدّ من ملاحظة أنّ الفقر والبعد عن البهرجة لا يعني التعفّف عن المكاسب، ففي حالات التسلّط الكنسيّ قد تكون المكاسب التي تخدّر المتسلّطين معنويّة: شهرة، صيت تواضع، صيت قداسة، صيت المحافظة على الصراط القويم، إلخ. الشهرة والألقاب تدغدغ في النهاية أحلام الإنسان بان يحيا إلى الأبد، هي إهرامات، لا يمانع المتسلّط من دفن نفسه حيّة فيها مقابل تخليده. وإن كان التسلّط من أجل الكسب المادّي والمعنويّ شائع في ميادين أُخرى غير الدينيّة، فالخطر الأدهى في الميدان الدينيّ، هو قدرة المتسلّط على استغلال الله نفسه لتسويغ تسلّطه، فيكتسب التسلّط الدينيّ قدرةً أكبر وأوسع على الفتك، وهذا ليس باستطاعة متسلّط آخر خارج الأديان.
التسلّط - إن استعملنا لغة اللاهوت المسيحيّ - محاولة عكسٍ لفِعلِ الخَلْق، فبينما خلق الله الإنسانَ «على صورته»، أي لديه إمكانيّات الحبّ والعقل والحرّية، ودعاه كي يصبحَ «على مثاله»، أي كي ينمّي تلك القدرات فيصبح في ملءِ الحياة؛ فإنّ التسلّط يؤدّي إلى عزل الإنسان فيخنقه معنويّا، ويحوّل الذات والآخر إلى شيء، أداة، في سوق بيع وشراء المكاسب، ولا يُمانع أن يحوّل الله نفسه إلى أداة كسب. التسلّط مسار قتل معاكس لمسار الخلق. ما يهمّنا أنّ التسلّط مدمّر للإنسان الخاضع له، أو ذاك الذي يتحمّل نتائجه ولو لم يخضع، ولهذا تجب مواجهته وإعلاء الصوت بشأنه، وخاصّة بشأن الدينيّ منه.
 
0 Comments

حول الثقة والنقد في العمل الكنسي

6/21/2022

0 Comments

 
خريستو المرّ
الثلاثاء ٢١ حزيران / يونيو ٢٠٢٢


​أدلى البطريرك يوحنّا العاشر (يازجي) بكلمة في مؤتمر حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة شدّد فيها أنّ الإنجيل هو سقف الجميع، ودعا إلى الابتعاد عن هرطقة الآخر عند كلّ اختلاف بالرأي، وإلى الابتعاد عن التعالي في إدلاء الرأي، ونبّه إلى ضرورة الّا نتوه عن الانجيل في خضمّ النشاطات الضروريّة، وضرورة التعاون بين الأبرشيّات والرعايا. ولكن ورد أيضا في كلمته عبارات تبدو جيّدة ولكنّها ملتبسة، كقوله ما معناه أنّ أيّ كلمة ينطق بها إنسان لا تُحتَسَب عليه فقط وإنّما على المؤسّسة التي ينتمي إليها، ونقدِهِ لما يراه تعاليًا في كلام البعض وخاصّة "المغتربين منهم"، وقوله أنّه كبطريرك يقوم "بالاستشارة بكلّ أعمالنا"، وقوله أنّه لا يمكنه أن "يفضح كلّ شيء لتقتنع أنت" في "قضايا التأديب والمساءلة". وعلّ هذه المقالة القصيرة تساهم في إغناء النقاش مع علمي أنّه لا يجدي نفعا في الأذهان المتطبّعة إمّا على التسلّط أو على التذلّل، أو على الاثنين معًا.
في معرض طلب الرعيّة لشفافيّةٍ وفهمٍ في القرارات المتعلّقة بـ"قضايا التأديب والمساءلة"، يقول البطريرك أنّه يبدو أنّ "الثقة ببعضنا معدومة"؛ وفي ذلك هو يصيب لبّ المشكلة، ولكنّه لا يبحث في أسبابها، وإنّما فحوى حديثه هو أنّ على المسيحيّات والمسيحيّين أن يثقوا بالرعاة فهم لا يمكنهم أن يقولوا كلّ شيء في العلن.
وهنا يبرز أمرين: من جهة الهوّة القائمة بين العالم الذي يعيش فيه معظم السادة المطارنة (ومنهم سيادة البطريرك) وبين العالم الذي يعيش فيه معظم المسيحيّين والمسيحّيات الذي لا يمكن للإنسان أن يرى في نفسه غنمةً في قطيع وإنّما إنسانا مسؤولا مشاركا في صناعة مصيره قدر الإمكان. إنسان اليوم يريد أن يفهم، وأن يناقش وأن يشارك.
أمّا الأمر الآخر الذي يكشفه كلام البطريرك، فهو أنّه لا يرى أنّ انعدام الثقة مرتبط بوقائع منها أنّ المطارنة ومَن ينوب عنهم عندما تصل إليهم شكاوى في الرعية يقفون موقف الحامي للإكليروس، أي أنّ القرارات والمواقف العلنية والملموسة التي تتلقّفها الرعية هي موقف يضرب بعرض الحائط بالعدالة مقابل حماية الإكليروس، وهذا يعني أنّ الشعب المؤمن لا بدّ أن يفقد ثقته بالقادة الدينيّين، تمامًا كما فقد ثقته بالقادة السياسيّين. فمثلا في إحدى الرعايا غير البعيدة عن البطريركيّة، عندما اشتكت سيّدة إلى أحد الأساقفة من تحرّش خوري الرعيّة بها لم يحدث شيء، بل تابع الخوري خدمته في الكنيسة. انتهت الشكوى. الأمر متروك بشكل مطلق للأسقف وما يراه مناسبًا. هل هذه هي الثقة التي يطلّبها سيادة البطريرك من الرعيّة؟ أن يثق الناس بأنّ الأسقف فعل اللازم، ولكنّه لا يمكنه الإفصاح عن الأسباب بسبب سرّ الاعتراف أو موقعه؟ "لا بالطبع"، يقول العقل والقلب السليمَين، مهما رأى سيادته من أمر. المشكلة المطروحة هي بالضبط عدم ثقة، ولكن عدم الثقة لم يأتِ من فراغ وإنّما من ممارسات الإكليروس. الكنيسة تُدار من دون مؤسّسات، ومن دون شفافية، ومن دون مشاركة من الشعب المؤمن، فكيف للثقة أن تُبنى؟ هذا عدا عن كون التسلّط والاعتباطيّة هما الخبز اليوميّ للتعامل الكنسيّ: إنسان يخدم عشرات السنين في مؤسّسة بطريركيّة انتعشت على يديه، وأيدي فريقه، يُقال من عمله في دقائق دون تبرير، ويُطلب منه أن يغادر المكتب فورًا، بالكاد يتمكّن من جمع حاجيّاته. أستاذ يُقال من منصبه وتصدر بحقّه الإشاعات، دون أيّة آليّة رسميّة (لا لجنة ولا مَن يحزنون)، مجرّد قرار. والحالة هذه ليست فريدة. هل المطلوب ألّا يرى الشعب تسلّطًا، وإنّما حكمة لا يعلم بها إلّا العالِمُ القدير؟ جامعة "العائلة البلمنديّة" مثلها مثل غيرها صورة عن البلاد، والتحزّبات، والطعن في الظهر، والتآمر التافه، والأنا المنتفخة. هذه جامعة سعت إدارتها منذ تأسيسها إلى عرقلة إنشاء نقابة لموظّفيها. زد على ذلك أنّه على حدّ علمنا نحن عموم الشعب، ما من تدقيق محاسبيّ لأبرشيّة واحدة أو رعيّة واحدة أو للبطريركيّة، أو ربّما يوجد، ولكنّه لا يُنشَر علنيّا. لا مشاركة شعبيّة، لا إدارة محترفة، لا شفافية، لا مؤسّسات مستقلّة لتلقّي الشكاوى (مثلًا شكاوى التحرّش الذي "لا" يحدث)، ولا محاسبة. المحاكم الروحيّة رجعيّة.أمّا الذكورية وتهميش دور النساء فحدّث ولا حرج. معظم السادة المطارنة يعيشون في قلّة ضائقة لافتة، يُحكى عمّن يضربون أيديهم فتخرج الأموال من خزائن المؤسّسات التي يشرفون عليها متى يشاؤون ليصرفوا كما يشاؤون بعد استشارتهم لا أحد. ليس الموضوع موضوع استشارة مجلس «أحباب»، الموضوع موضوع مشاركة الشعب المؤمن في قيادة حياته الكنسيّة.
هل في هذا الكلام تنظير وتعالٍ أم مصارحة؟ هل يحمّل أحدُهم من الضيّقي الأفق والعقل، حركةَ الشبيبة الأرثوذكسيّة مسؤوليّة كلامي أم هو رأيي الشخصيّ؟ إنّ العالم الذي يعيش فيها السادة المطارنة انتهى إلى غير رجعة. أمّا همَّ مَن يكتب ومَن يتكلّم ومَن يعمل، ومَن لم ييأس بعد، فهو ألاّ تستيقظ كنيسة أنطاكية إلى يومٍ يفتّش شبابها فيه عن المسيح خارجها، وأن يبقى الناس متذكّرين وجهَ المسيح المضيء، الذي لا يشبه أحدًا منّا في خطيئته، والذي نجده في الحبّ الفاعل من أجل الحياة.
0 Comments

تأمّلات في الرأسماليّة

6/14/2022

0 Comments

 
خريستو المرّ
الثلاثاء ١٤ حزيران / يونيو ٢٠٢٢
في بلادنا وغيرها، يتأفّف الناس من "الفساد"، والفقر، وتدنّي مستوى الدخل، والغلاء، ولكن لا يذكرون الأسباب القائمة وراء هذا الواقع ألا وهو بنية النظام القائم: الرأسماليّة. فكلمة " الرأسماليّة" باتت غير متداولة وكأنّها غير موجودة، بل أنّ الكثيرين -فقراء وأغنياء- ما يزالوا مسحورين بإنجازات الرأسماليّة بحيث باتوا يرون بها النظام الذي لا نظام إلّاه.
الحقيقة أنّ الرأسماليّة لا تعمل دون استغلال، وأنّها تسلّع كلّ شيء، من الاختراعات، إلى الطبيعة، إلى الناس (فما معنى أن يُسمّى العُمّال "مُستَخدمون" سوى أنّهم يُستخدمون كأدوات في يد ربّ العمل؟). لكنّ الذين يحبّون الحرّية ليسوا حريصين جميعهم عليها في ظلّ جميع الأنظمة. فبينما ينتقد العاقلون محاصرة حرّية الناس في بلاد الديكتاتوريّات، يغفل معظمهم عن محاصرة الرأسماليّةِ لحريّةِ الناس وافتراسها لهم في الديموقراطيّات المتوحّشة.
لا يعرف معظم المسيحيّين أنّه عدا المفكّرين الشيوعيّين والاشتراكيّين الفذّين، لاحظ مفكّرون عديدون مسيحيّون – وهم لم يكونوا مسحورين كما اليوم بالرأسماليّة ويمتنعون طوعا عن نقدها – بأنّ حرّية العمّال في ظلّ الديموقراطيّات الرأسماليّة في حرّية وهميّة وشكليّة: ما هي حرّية ٨٠٪ من سكّان لبنان القابعين تحت خطّ الفقر عندما بالكاد يستطيعون تأمين قوتهم اليوميّ؟ إنّ شخصًا يتربّص به الجوع أو المرض أو يرتع في الأمّية (نسبة الأمّية في العالم العربيّ حوالي ٤٠٪) لن يستطيع أكل بطاقته الإنتخابيّة، أو أن يتطبّب بها.
إن واقعَي الاستغلال والفقر ليسا صدفة، أو نتيجة "طبيعيّة" لبلد أو منطقة، إنّهما نتيجة للرأسماليّة في كلّ الدول التي تدين بها. إلّا أنّ صحفيّ في جريدة النهار تفتّق فكره يومًا على وصف للفقر بأنّه "عاهة فظيعة" لإخفاء طبيعة الصراع الطبقيّ القائم في لبنان، هذا بينما كان ميشال شيحا، منظّر الاقتصاد اللبنانيّ، يرى أنّ الفقر هو من "القباحات" المرتبطة بالشرق، أي بالجغرافيا، وبيير الجميّل يرى أنّ المساواة الاجتماعيّة غير موجودة إلّا في الجنّة. والنتيجة أنّه لتحقيق المساواة أو لمواجهة الفقر (إلّا الصلاة ربّما). لا بدّ أن نتذكّر بأنّ المساواة في فرص التعلّم والتي تحقّقت بتأسيس الجامعة اللبنانيّة المجانيّة لم تحصل إلّا عنوةً، بعد سقوط ضحايا في تظاهرات، فطبقة الأغنياء التي حكمت لبنان كانت مرتاحة للفقراء دون تعليم.
هناك شبه إيمان بالرأسماليّة يقوم على السجود لإله السوق، إيمان عقيدته تقول بأنّ الدولة لا يمكنها أن تدير مؤسّسات وأنّ الخصخصة والمنافسة هي طريقة الحياة "الطبيعيّة" للمجتمعات الانسانيّة، وأنّه يجب خفض نفقات الدولة الاجتماعيّة من تأمين صحّي ونظام تقاعد ونظام حماية من البطالة وتعليم مجاني، لأنّها تُضِرّ بالمنافسة وبالتحفيز على الإنتاج؛ فالبقاء «للأقوى و«الأذكى» بين الناس لأنّ هذه سنّة "الطبيعة" والتطوّر. ومن «ينجح» وسط هذه الداروينيّة الاجتماعيّة يكون قد تمّ انتقاءه «طبيعيّا» بحسب كفاءته وجدارته. لكنّنا نعلم أنّ الناس لا يبدأون حياتهم من فرص متساويّة، لا يتساوى في الفرص مَن والده نائب في البرلمان أو رئيس شركة تجاريّة كُبرى ومَن والده عاطل عن العمل أو حاجب في مصرف. حتّى نسبة الذكاء نعلم علميّا أنّها تتأثّر بالتغذية وبالظروف المادّية للأهل (كمّية المال) وبأنّ "اللامساواة في الذكاء هي لامساواة اجتماعيّة"، كما كان عالم الاجتماع الفرنسيّ بورديّو يقول. نعم يولد الناس متساوون في الكرامة، لكنّ النظام الرأسماليّ لا يمنحهم تساويًا لا في الفرص ولا في الكرامة.
إنّ كهّان وعبّاد الاقتصاد الـ"حرّ" يؤمنون بقوى السوق-الإله و«حكمته»، ولكنّهم أيضًا يؤمنون بالاشتراكيّة عندما يخسرون ملياراتهم في عمليّات المقامرة في السوق، إذ عندها يضغطون لكي يشاركهم كلّ المجتمع خسائرهم بأن تعطيهم الدولة تعويضات عن الخسائر (نذكر ما جرى إثر خسارات البنوك حول العالم عام ٢٠٠٨، وما يطرحه المصرفيّون في لبنان من أن يسمح لهم البرلمان بالسطو على مقدّرات المجتمع بعدما بدّدوا -هُم لا الدولة- أموال المودعين). هذا عدا الاشتراكيّة التي يمارسها الرأسماليّون فيما بينهم في العمل فيتعاونون لدعم نظام الاستغلال القائم وتوزيع الغنائم. وفيما يعظ كهّان الرأسماليّة بضرورة تفكيك شبكات الأمان الاجتماعيّ للدولة الحامية من صحّة وتعليم مجّانيّين ونظام تقاعديّ، وغير ذلك، هم يغرفون الأموال غرفًا من بيع بوليصات تأمين مذكّرين الناس بعدم الأمان -الذي خلقه الرأسماليّون- في الصحة والعمل والتقاعد.
بواسطة قمع شرس للحرّية الفكريّة بخطابٍ تحريريّ ظاهريّاً (حرّية الاقتصاد، حرّية السوق، الحرّية الفرديّة، المبادرة الفرديّة، الحلم الأميركيّ)، وإيديولوجيّة تبسيطيّة (المنافسة والبقاء للأقوى، تخفيض الضرائب على الشركات سيؤدّي إلى نسب توظيف أعلى، إلخ.)، تجري محاولة تحطيم حرّية الإنسان ومنعه من مجرّد التفكير بإمكانيّات أُخرى.
مَن كان همّه بالفعل المسيح، كان همّه بالفعل الإنسان، ولهذا لا بدّ إن كان على شيء بسيط من الاطّلاع، أو من الحسّ، أو من كليهما، أن يقول مع كوستي بندلي "بأنّ "الرأسماليّة نبذت الله فعليّاً، وإن لم تجاهر بذلك، لأنّها ألّهت المال والإنتاج"، كانت السلطات الكنسيّة والإسلاميّة – ولم تزل- تنتقد الإلحاد الشيوعيّ، لكنّها لا ترى ولا تنتقد نظامًا كامًلا يعمل على تدجين المؤمنين على عبادة السوق-الإله، ولكن توهمهم على أنّهم ما يزالون على إيمان مستقيم لأنّهم ما يزالون يرتادون الكنائس والجوامع. وإن كانت الشيوعيّة كما طبّقها الاتّحاد السوفيياتيّ قمعت الحرّية، فإنّ الرأسماليّة خانت كلّ المفهوم المسيحيّ للحرّية الذي يقول بأنّ الحرّية لا تقوم دون مساواة ومشاركة، وحدهم المشارِكون المتعاضدون القابلون للمساواة، أحرارٌ من انغلاقهم.
كان يوحنا الذهبي الفم يعظ ويقول "مهما صُمت، ومهما ركعت، ومهما أكلت الرماد، وذرفت الدموع، فإنك لا تكون قد قمت بشيء عظيم إذا لم تكن مفيدًا للغير"، وأيضًا "لقد اقامنا المسيح على هذه الارض لكي ننشر النور، لكي نكون الخميرة. الأعمال تقوم مقام الكلام أفضل قيام. لو سلكنا سلوكًا مسيحيًا حقيقيًا لزالت الوثنية". لو عاش الذهبي الفم في زماننا لسمعناه يقول: لو سلكنا سلوكًا مسيحيًا حقيقيًا لَكُنّا بالتأكيد عملنا على نقد الرأسماليّة وإزالتها، عوض قبولها صاغرين دون إعمالٍ للعقل؛ لَكُنّا قاومناها، لَكُنّا رفضنا فكرة نهب المصارف لنا ولأولادنا وأحفادنا بواسطة ما يُسمّى بالـ«الصندوق السياديّ»، لواجهنا السياسيّين والمصرفيّين والتجّار عوض أن ننتخبهم من جديد. لو عاش الذهبي الفم في زماننا لسمعناه يقول: لو سلكنا سلوكًا مسيحيًا حقيقيًا لزالت الرأسماليّة.
0 Comments

اليأس والأمل في الحقل العام

6/7/2022

0 Comments

 
خريستو المرّ
الثلاثاء ٧ حزيران / يونيو ٢٠٢٢
​

يتساءل الإنسان - بينه وبين نفسه على الأقلّ – أن ما فائدة كلّ عملٍ عام في بلاد تحت حُكمٍ لا يتبدّل، أكان ديكتاتوريّا أو قبليًّا طائفيًّا؟ الجواب قد يأتي من وقائع علينا أن نسهر عليها دائمًا.
الواقع الأوّل هو أنّ ما من شيء يدوم في الحياة، لا روما دامت ولا اليونان ولا غيرهما من الإمبراطوريات والاحتلالات، التغيير هو واقع طالما بقي الصراع حيًّا، قد لا يأتي التغيير خلال فترة امتداد حياة إنسانيّة واحدة (حوالي القرن بالأكثر) ولكنّه يأتي طالما بقي السعي. المطلوب هنا هو شيء من التواضع الشخصيّ أمام الأحداث، حتّى يقبل الإنسان بألّا يرى جهوده قد أثمرت بشكل ناجز خلال فترة حياته. إن لم يَقبل الإنسان أن يسهر على تواضعه فالنتيجة هي ما نلاحظه عند البعض من كآبة وسلبيّة وجبريّة وتبريٍر للانهزام والاستسلام أمام أعداء الأمس، ومن لهاث خلف الثروة التي يتوهّم البعض بأنّها تعطيهم قدرةً تعوّض عن شعورهم بالهزيمة، ومن استسلامٍ «للواقع» أحيانًا في انزواء عن الصراع ونقدٍ للمستمرّين فيه.
أمّا الواقع الآخر فهو أنّ الإنسان مخلوق باحث عن معنى، وكباحث عن معنى لا يمكنه أن يكتفي بالأفعال التي يفعلها، على أهمّيتها، بل عليه أن يعطيها معنى لكي يكون قادرا على الاستمرار بها، ولكي تكتسب تلك الأفعال لديه أهمّية وتصبح جزءا من هويّته الشخصيّة. عندما تكون الأفعال مجرّد نتيجة لعادة اجتماعيّة أو لوجود جغرافيّ أو مرتبطة بسعي لتحقيق انتصار سريع أو شهرة أو ما شابه لا تتجذّر تلك الأفعال في الشخصيّة، وعندها يمكن أن يتوقّف الإنسان عن الأفعال تلك بتبدّل الظروف الخارجيّة (الجغرافيا، المجتمع) أو بسبب عدم تحقيق الأهداف (انتصار، شهرة). عندها عادة ما يتصرّف الإنسان بردّة فِعل الخائب الذي ينتقم من ماضيه بالانكباب على نقيضه، أو كلّ ما يظنّه تعويضًا عن ذاك «الفشل». من هنا تدخل كلّ الأوهام إلى القلب والفكر.
أمّا مَن كانت أفعاله قد اكتسبت معنى لديه، فكانت مرتبطة برؤية للحياة وبمجموعة من المبادئ التي يرى الإنسان فيها معنى لحياته ولحياة كلّ إنسان، فإنّ التغيير في الظروف الخارجيّة أو عدم تحقيق الأهداف المرجوّة، يكون مدعاةً للمثابرة في التوجّه نفسه، وإعادة النظر بطرق العمل ضمن الإمكانيّات المتاحة في كلّ ظرف، والتعاون مع الغير، من أجل حماية وتثبيت مجموعة المبادئ وتسليمها لأجيال أخرى. والذي يدعوه الـمُنقَلبُ على مبادئه «فشلًا» يدعوه المثابرُ «ليس بعد». وحيث يسير الأوّل مسار الانقلاب بتدرّج، يُفاجَئُ الثاني بما يتفتّق في ذاته من طاقاتَ لا حصر لها تتفتّح عفويّا مشاعرَ وفكرًا وعملًا. بالنسبة للإنسان الذي يعطي لأعماله معنى، الأفعال ليست مجرّد أشياء انتهت وإنّما هي خطوات في طريقٍ، طريق مليئة بالوجوه الجميلة التي سبقته، والتي معه، والتي ستأتي بعده؛ ولذلك ليس هو بمعزول ولا بحالة ضعف، وإنّما مجرّد مُشاركٍ في ورشةٍ إنسانيّةٍ ليجمُلَ هذا العالم، ولذلك فمسعاه الأكبر هو أن تستمرّ تلك الورشة.
الإيمان يشدّ ذلك كلّه إلى بعضه: إيمان ذلك الإنسان بأنّه قد مشى الطريق الصحيح. وهو قد يشكّ والشكّ جيّد فهو يغسل عين القلب وعين العقل، ولكنّه يبقى مؤمنًا بأنّ الإنسان دون هذا الطريق يصبح من عداد الأشياء، أي يخسر نفسه كإنسان. وتبقى كلمة المسيح -آمنّا به أم لم نؤمن - ترنّ في داخلنا: وماذا يفعل الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه أو فقدها. من خلاله هذا المنظور، يمكننا متابعة مواجهة الوقائع المؤلمة في الحقل العام التي تحدث حولنا في حياتنا. وعندها، وإلى حدّ كبير، لا يصبح لموتنا الكلمة الأخيرة، بل تصبح الكلمة الأخيرة للحياة التي وُهِبناها ووهبناها للعالم بمشاعرنا وفكرنا وعملنا.
هذا كلّه، يذكّر بقول آخر للمسيح «مَن يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضاً، ويعمل أعظم منها». فمن يؤمن بأنّ عالـمًا آخرَ ممكنٌ، بأنّ الإنسان مقدّس، يعملُ من أجل تكون الحياة وتكون أوفر، ولذلك هو رفيق طريق، رفيق يسوع-الطريق وكلمة الحياة، والسائرون في الطريق يسمعون بآذانهم، ويرون بعيونهم، ويلامسون بأيديهم، ويصنعون ويحيون كلَّ ما هو تجلٍّ لكلمة الحياة متابعين عمل يسوع في هذا العالم.
0 Comments

​شيرين أبو عاقلة والاحتلال العاري

5/31/2022

0 Comments

 
خريستو المرّ
الثلاثاء ٣١ أيّار / مايو ٢٠٢٢
​
"أثناء وقوفي في الشارع مع بعض الأصدقاء الفلسطينيين، لاحظت وجود فلسطيني مسنّ يسير في الشارع يقود حماره. وكان معه طفل صغيرٌ لا يزيد عمره ثلاث أو أربع سنوات، من الواضح أنه كان حفيده. اقترب عدد من الجنود الإسرائيليين الواقفين في الجوار باتجاه الرجل العجوز وأوقفوه. ثمّ توجّه أحد الجنود نحو الحمار وفتح فمه، وسأل، "أيها الرجل العجوز، لماذا أسنان حمارك صفراء؟ لماذا ليست بيضاء؟ ألا تنظّف أسنان حمارك بالفرشاة؟ " اغتمّ الفلسطيني العجوز، وبدا الطفل مستاءً. كرّر الجندي سؤاله وصرخ بوجهه هذه المرة، والجنود الآخرون يضحكون. بدأ الطفل في البكاء ووقف الرجل العجوز صامتًا مُهانًا. تكرّر هذا المشهد بينما تجمع حشدٌ من الناس. ثم أمر الجندي العجوز بالوقوف خلف الحمار وطالبه بتقبيل الحيوان من الخلف. في البداية، رفض الرجل العجوز، ولكن عندما صرخ الجندي في وجهه وأصبح حفيده في حالة هيستيرية، انحنى وفعل ذلك"، بهذه الحادثة تكشف سارة روي عن وجه الاحتلال الصهيونيّ والذي شهدت عليه عندما زارت فلسطين المحتلّة ١٩٨٥ قبل الانتفاضة الأولى بسنتين. هذا الوجه العنصريّ الذي لا يعتبر الآخر مساويًا في الإنسانيّة هو الذي يخفيه الإعلام الأوروبيّ والأميركي الشمالي في بلاد الديموقراطيّة وحقوق الإنسان، ويتناساه الكثيرون من اللبنانيّين والسوريّين، وتحاول الأنظمة الخليجيّة الخائنة للحقوق العربيّة أن تنسينا إياه تحت غطاء كثيف من بريق الاستثمارات والمال والتقدّم، ونحن لا ننسى كم دمّر الأوروبيّون والأميركيّون – وما يزالوا يدمّرون- شعوبًا حول العالم باسم " التقدّم"، وشعار "الديموقراطيّة" و"حقوق الإنسان" في فم الاستعمار والهيمنة الغربيّة اليوم هم صنو "التقدّم".
لكن شتّان بين عام ١٩٨٥ وعام ٢٠٢٢ في فلسطين. القاعدة العامّة في الحياة على هذا الكوكب، أنّه لن ينتبه أحدٌ تقريبًا لظلم إن لم ينتفض المظلوم، ولن تأبه دولة له إن لم يزعجها المظلوم ويحرجها. الانتفاضة الأولى كانت المفصل الذي كسر فيها المقموع القابع تحت الاحتلال صمته، وقَبْلها حملت المنظّمات الفلسطينيّة السلاح خارج مناطق الاحتلال وذكّرت العالم أنّ الفلسطينيّين – على عكس ما أشاعت الدعاية الصهيونيّة – شعب موجودٌ ومُحتَلّ وترك بلاده عنوةً على عكس ما تقول الدعاية اليمينيّة اللبنانيّة. ثمّ جاءت اتّفاقيّة أوسلو والتي كانت ستارًا دخانيّا صُنِعَ ليحجب حقيقة كونه خطّة لإسكات الانتفاضة مقابل تفاوض أبديّ على «الوضع الأخير» الذي لن يأتي، بينما بقي قدم الأراضي والتنكيل والاحتلال مستمرّين بشراهة.
نعم، شتّان بين ١٩٨٥ و٢٠٠٢، فبينهما أيضًا دَحر المقاومة لجيش الاحتلال في جنوب لبنان عام ٢٠٠٠، وتدمير الدعاية الصهيونيّة حول «الجيش الذي لا يُقهَر» في جنوب لبنان عام ٢٠٠٦. وبين التاريخين الانتفاضة الثانيية ونموّ القدرة الفلسطينيّة على مواجهة الاحتلال في الداخل والتي بلغت أوجها في المواجهة الموحّدة التي قام بها الفلسطينيّون أمام محاولات طرد سكّان حيّ "الشيخ جرّاح" في القدس، وتنمو هذه القدرة اليوم في معركة القدس والمسجد الأقصى. وفي سنوات طويلة ما بين ١٩٨٥ و٢٠٠٢ واجهت شيرين أبو عاقلة الكذب بكشف الوجه العاري للاحتلال، وما هتاف أحد المحتلّين الهائجين في القدس بأنّ " شيرين لم تعد موجودة" إلّا دليل على نجاحها مع زميلاتها (مثل جيفارا البديري التي اعتقلها الاحتلال مرّة) وزملائها على كشف وحشيّة الاحتلال. ما بين ١٩٨٥ و٢٠٠٢ لم تتغيّر عنصريّة نظام الاحتلال، بل ازدادت تعسّفا وإقصائيّةً، وقد كشفت كاميرا وتقارير شيرين، وكاميرات آلاف الفلسطينيّين اليوم، المزيد من التعسّف المقونن والتدمير الممنهج والتعالي العنصريّ المدمّر.
حتّى في سقوطها شهيدةً رفعت شيرينُ العلم الفلسطينيّ بجسدها المدمّى في شوارع فلسطين، وشوارع القدس، وحرّضت على رفعه في الكنيسة وخارجها، ورفعه أيضًا البطلات والأبطال الذين واجهوا بأجسادهم العارية هراوات الاحتلال الوحشيّ ومنعوا وقوع جثمانها الملفوف بعلم فلسطين. وفي سماء القدس رفع الفلسطينيّون العلم الفلسطينيّ بواسطة مسيّرة صغيرة في رمزيّة معبّرة تهيّء لاحتفالنا بتحرير القدس من الاحتلال. وفي القدس نفخ فلسطينيّ شاب دخان سيجارته ببرودة فائقة في وجه جنديّ مدجّج، ليقول: أنا الأقوى لأنّي صاحب الأرض وأنت الأضعف لأنّك تعرف أنّك مُحتَلّ، وأنّ احتلالك إلى زوال.
سيُباد الاحتلال كالدخان أمام الوجه الفلسطينيّ المقاوم فتكون الحرّية انتقام شيرين وكلّ فلسطينيّ بريء من قاتليه.
0 Comments

تحرير بلاد

5/25/2022

0 Comments

 
خريستو المرّ
الثلاثاء ٢٥ أيّار / مايو ٢٠٢٢
 
في ٢٥ أيّار ٢٠٠٠، وتحت ضربات مقاومة استمرّت لسنوات طوال، انسحب جيش الاحتلال مدحورًا من لبنان. اليوم يوم فرح لأنّ الظُلم قُهِرَ فيه. خلال سنوات الاحتلال الطوال، كانت معزوفة المنهزمين (وعلى رأسهم بطريرك بكركي) بأنّ المطالبة بتنفيذ قرارات الأمم المتّحدة (القرار ٤٢٥) هو الكفيل بإنهاء الاحتلال لأنّنا بلد ضعيف. من يُريد، يفهم أنّ الدول الكبرى وأتباعها، تدوس القرارات الدوليّة متى تشاء، وأنّ الشعوب المقهورة لا يمكنها أن تبلغ العدالة دون أن تَغْلِبَ ظالميها، أو تقاومهم، حتّى تصبح كلفة الظلم ودعمه أعلى من كلفة العدالة. لا تُلزم الدول الكبرى نفسها تطبيقَ القوانين الدوليّة واحترامَ حقوق الإنسان، وحتّى اليوم لم يمثل واحدٌ من عتاة سفّاحيها، أكانوا رؤساء جمهوريّات أم وزارات، أمام أيّ محكمة دوليّة، بينما تهدّد تلك الدول بالقانون الدولي سفّاحي بلادنا عندما لا ينصاعون لأوامرها، وتغضّ الطرف (إلى حين) عنهم إن كانوا من اصدقائها.
إسرائيل تقتل وتسحل وتسجن وتعذّب وتهدّد الفلسطينيّين يوميًّا، وتقصف وتقال في سوريّا، وتهدّد لبنان وإيران، دون أيّ تنديد يُذكَر لا من إعلامٍ ولا من حكومةٍ في بلاد "القوانين الدوليّة". أمّا حكومة الولايات المتّحدة فتهدّد الرئيس الروسيّ بالمثول أمام المحكمة الدوليّة، وهي حكومة بلد صوّت مع إسرائيل، والصين، وقطر، والعراق، وليبيا، واليمن ضد قانون روما الأساسي (The Rome Statute) الذي أنشأ المحكمة الدوليّة ولم يوقّع عليه.
فَرَحُنا بالتحرير لا يُلغِ مسؤوليّة ما بعد التحرير، وهي مسؤوليّة مشتركة بين جميع مَن شاركوا في الحكم. لا يكفي التشديد على الدفاع عن السيادة على الأرض بطرد المحتلّ، دون ذكر استباحتها من قبل المصارف اللبنانيّة، ثمّ صندوق النقد الدولي، تلك الاستباحة التي يتشارك فيها أطراف هذا النظام الذين توحّدوا رغم خصوماتهم في اجتماع لجنة تقصّي "الحقائق" الماليّة الشهيرة التي عملت على حماية المصارف من أيّة خسارة. إنّ السيادة العزيزة في خطابات أحزاب النظام كافّة، فرشتها تلك الأحزاب أمام أقدام المصرفيّين، وأقدام الزعماء الناهبين. ما خلا خطاب مواطنون ومواطنات في دولة، كان الكلام الانتخابيّ عبارة عن حماسيّات خطابيّة وحشد مشاعر وذرّ للرماد في العيون.
رغم ذلك، يبقى طرد المحتلّ، مهما كان موقف الإنسان من الحزب الذي كان له المساهمة الكبرى في طرده، دليلًا على قدرة شعبٍ صغير، في ظلّ دعم خارجيّ، أن يقاوم دولة تفوقه تسلّحًا بآلاف المرّات. ويبقى نجاح بضعة من المستقلّين عن أحزاب السلطة، جميلٌ، ولكن لن يتحوّل الجمال إلى أمل إلّا بتحويل النجاح الفرديّ إلى عمل جماعي تحت مظلّة وطنيّة مع أحزاب خارج السلطة.
حتّى تحين ساعة تغيير هذا النظام الإجراميّ الذي أفقر ٨٠ بالمائة من الناس والذي نتمنّى دكّه دكًّا، فلنضع نصب أعيننا تلك الصورة الفاضحة لأحزاب النظام وهي تدافع عن المصارف بشراسة داخل لجنة تقصّي "الحقائق" الماليّة النيابيّة في مواجهة مع حكومة حسّان دياب وصندوق النقد الدوليّ الذي باتت تبدو سياساته أقلّ جرائميّة من تلك سياسات الأحزاب التي تريد بيع الأملاك العامّة، والإمعان في تفتيت حياة الناس وسيادتهم على حياتهم وبلادهم.
0 Comments
<<Previous

    الكاتب

    خريستو المر

    الأرشيف

    August 2022
    July 2022
    June 2022
    May 2022
    April 2022
    March 2022
    February 2022
    January 2022
    December 2021
    November 2021
    October 2021
    September 2021
    August 2021
    July 2021
    June 2021
    May 2021
    April 2021
    March 2021
    February 2021
    January 2021
    December 2020
    November 2020
    October 2020
    September 2020
    August 2020
    July 2020
    June 2020
    May 2020
    April 2020
    March 2020
    February 2020
    January 2020
    December 2019
    November 2019
    October 2019
    September 2019
    August 2019
    July 2019
    June 2019

    Categories

    All

    RSS Feed

 ليس من حبّ أعظم من هذا : أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه: يسوع المسيح
  • الصفحة الرئيسة
  • كتب
  • محاضرات
  • الإيمان والحياة اليوميّة
  • فلسطين
  • التزام شؤون الإنسان
  • الإيمان والثقافة
  • كلمات
  • خريستو المرّ
  • مواقع صديقة