موقع خريستو المرّ
Arabic | English
  • الصفحة الرئيسة
  • كتب
  • محاضرات
  • الإيمان والحياة اليوميّة
  • فلسطين
  • التزام شؤون الإنسان
  • الإيمان والثقافة
  • كلمات
  • خريستو المرّ
  • مواقع صديقة

مدوّنة الثلاثاء

الإنسان المسيحيّ والسلطة

8/27/2019

0 Comments

 

المقالة الأصليّة
الإنسان المسيحيّ والسلطة
 الثلاثاء ٢٧ آب ٢٠١٩​

​ منذ ألفي عام مشى بيننا إنسانٌ، كلّيُّ السلطة، غسلَ أرجلَ تلاميذه قبل ذهابه إلى الموت على الصليب بقليل. إنسان امتطى صليبه بحرّيةٍ واقتحم بالحبّ معاقل الموت، وترجّل بعد ثلاثة أيّام مكلّلاً بالضوءِ من أجل أن تكون الحياة للعالم وتكون أوفر. هذان الحدثان الإيمانيّان لهما امتدادات حياتيّة؛ إذ بهذين الحدثين أعلن يسوع بما لا لُبس فيه أنّ السلطة الكلّية – سلطة الله – هي المحبّة الخادمة، الباذلة. ولأنّ كلّ محبّة هي دائما معلّقة على الصليب من أجل نموّ الآخرين، فإنّ إعلانه يعني أنّ السلطة الكلّية هي تلك المستعدّة أن تتجرّع الموت من اجل نموّ الآخرين في الفرح والحياة. كلّ أمّ أصيلة وأب أصيل وشهيد أصيل يفهم تماما هذا الكلام.
إعلان يسوع هذا، كما نفهمه، هو جواب على سؤال بيلاطس ما هو الحقّ؟ إعلان يسوع جواب يقول: الحقّ هو الحياة، هو أن يحيا الآخرون وأن تحيا الذات بالسلطة الكلّية للحبّ. أمّا الحبّ فنعرف أنّه وحدة تحترم التمايز وأنّه بالضرورة معلّق على صليب الآخر، وبالنسبة لله الحبّ معلّق على صليبٍ "منذ انشاء العالم".
من هنا يمكننا أن نحدّد السلطة المنسجمة مع المسيحيّة بأنّها تلك السلطة التي تسعى إلى حياة الآخر ونموّه كغاية، أمّا تلك المتعارضة مع الإيمان المسيحي فهي تلك التي تستغلّ الآخر وحياته كوسيلة لتحقيق مصالحها، والتي تؤدّي في النهاية أن يتضاءل نموّ الآخر فيها، وأن تضمر حرّيته وقدراته.
هكذا مثلا، سلطة الأساتذة هي مقبولة إيمانيّا إذا كانت تهدف إلى تدريب الطلّاب كي يصبحوا فاهمين ومستقلين فكريًّا كالأساتذة (على افتراض استقلالهم)، وتسلّطهم يكمن بطلب خضوع الطلّاب الأعمى لهم وترداد ما يلقّنوهم. أمّا سلطة السياسيين فتكمن في عملهم للمصلحة العامّة أي لمساواة الناس بالحرّية والكرامة (وعندما نقول كرامة نعني حقّ الإنسان الطبيعي بالمسكن والعمل والطبابة والعلم، إلخ.)، أمّا تسلّطهم فيكمن باستغلالهم للناخبين، وإخضاعهم بالدعاية أو بالمال أو بالتهديد، من أجل الوصول إلى السلطة ونهب ثروات البلاد. وكذلك سلطة رجال الدين (يكاد الموضوع يكون حكرا على الرجال في بلادنا)، فهي تكمن بتعاونهم مع "العلمانيّين" ومع زملائهم من رجال دين، للسهر على الإيمان، وخدمة كرامة الناس جميعًا مثلما فعل يسوع والأنبياء، أمّا تسلّطهم فيمكن باستخدام موقعهم وعلاقاتهم وأدوات "السلطة" لديهم لإخضاع غيرهم، بالترغيب بمنصب أو بالتهديد بعقاب، وحتّى بتحوير الرسالة الدينيّة نفسها لخداع العقول واستلاب حرّية الناس. 
من وجهة نظر مسيحيّة، تكون السلطة – مدنيّة كانت أم دينيّة – عقلانيّة عندما تسعى أن ينطلق مَن يحيوا في ظلّها ليحقّقوا ذواتهم وينموا معًا "إلى ملء قامة المسيح" في وحدة وحرّية وكرامة؛ وتكون السلطة لاعقلانيّة عندما تشيِّء الإنسان وتستغلّه وتسعى لإخضاعه، فتُنتِجُ عبيدًا منهزمين، يعوّضون عن شعورهم بذلّ الخضوع بالتسلّط على "الأضعف"، وبالنفاق على "الأقوى".
إنّ يسوع المسيح بإظهاره معنى السلطة، ومواجهته المستمرّة لسلطة الدينيّة المتمثّلة بالفرّيسيّين، ومواجهته العلنيّة للسلطة السياسيّة بشخص هيرودس، وإظهاره حرّية كبرى في التعامل مع السلطة السياسيّة الرومانيّة (بيلاطس)، يحضّ كلّ مسيحيّة ومسيحيّ على مواجهة كلّ سلطة لا عقلانيّة لأنّها تدمّر الإنسان وتُنشئُ بيئة تهيّءُ للانفصام بين الإيمان والأعمال، وتعرقل ممارسة المحبّة لكونها تعرقل ممارسة الحرّية. وإن لم يكن باستطاعة إنسانٍ ما أن يواجه - وحده أو جماعيًّا - سلطة جائرة، فأقلّ الإيمان هو ألاّ يشيد بها، ولا يروّج لمهالكها على أنّها نجاة.
إن ثبت المسيحيّون والمسيحيّات في محبّة وتعاليم سيّدهم، ثبت هو فيهم وتجلّى في الأرض، وانتصروا مع إخوتهم في الإنسانيّة الانتصارَ الأكبرَ، ذاك الذي يجمع ويوحّد في ظلّ سلطة عقلانيّة "من أجل تكون الحياةَ وتكون أوفر"... للجميع.
 

خريستو المرّ
0 Comments

«مارث تيستاس» العالم العربي

8/20/2019

0 Comments

 

المقالة الأصليّة
«مارث تيستاس» العالم العربي
 الثلاثاء ٢٠ آب/أغسطس ٢٠١٩​

Picture
لا نعرف الكثير عن بدايات «آل بويسّي»، نعرف أنّها ولدت عا م١٧٦٥ في شرق أفريقيا. لا شكّ أنّ «آل» الطفلة كانت تركض في قريتها ملء ضحكتها، ولكن نعرف أنّها أُسِرَت مع أمّها وهي بعد في بداية المراهقة في غزوة رجال بيضٍ كجهنّم، لاعتقال بشر سودٍ واستعبادهم. من وقتها ثقلت رجلا «آل» بحجر الخوف، ورمتها الحضارة في دوار لا قعر له. وقع التراب الأفريقيّ عن قدمي «آل»، وضاع، وضاعت.
​
نعرف بعض الأشياء بعد القبض على «آل» بويسّي، نعرف أنّه في يوم ما بين عامي ١٧٧٨ و١٧٨١ بيعت إلى الأخوين بيير وفرنسوا تيستاس رجلا أعمال في مدينة النبيذ المعتّق الرومنطيقيّ بوردو، كانا صاحبي مزرعة في جزيرة الدومينيك. ونعرف أنّه في عمر السادسة عشر رُحِّلّت «آل» إلى مزرعة فرنسوا في جزيرة الدومينيك في الكاريبي، وهي بعد في السادسة عشر من عمرها. هناك تطوّع فرنسوا أن تمرّ «آل» بطقس العمادة الجميل، فقد كان ينبغي بعرف الحضارة الجميلة وكتعبير عن محبّة خالصة أن تعمّد آل، فـ«آل» لم تكن مسيحيّة بعد وفرنسوا بلا شكّ يحبّ يسوع ويعرف أن الطريق الوحيد للخلاص هي عبره وفي المسيحيّة حصرًا، أي في الكثلكة (كم من فرنسوا نائم عند الأرثوذكس اليوم!). غيّر فرنسوا اسم «آل» إلى مارث أديلاييد موديستي تيستاس، والبشرية لطالما فهمت ما تؤكّده علوم الاجتماع أنّ من يسمّي شيئًا أو شخصًا يمتلك نوعًا من السلطة عليه، ولهذا رفض الله أن يعطي لنفسه اسما لمّا سأله موسى عن اسمه: أجابه يهوه وذلك يعني "أنا من أنا" أو "أنا الذي يكون"، أي يا موسى ليس لك ولا لشعبك أن تمسكوني أنا لست ملككم (واليوم ودائما هناك من يحاول القبض على الله في الدين أو في السياسة). «آل» لم يكن لديها خيار الرفض، دفنت اسمها في قلب الفتاة التي وطئت تلك الجزيرة ولبست اسمها الجديد: مارث. اتّخذ فرنسوا مارث في مزرعته عبدة وعشيقة في آن، لم يبلّغ أحدٌ أنّه أخذ رأيها لا بالعبوديّة ولا بالحبّ ولا بالجسد، ولكن هُيِّئ لي أنّي وجدتُ منذ أسبوع زجاجةً على الشاطئ الشرقيّ من كندا حملت رسالة من ثلاث كلمات: "أنا آل بويسّي".

لربّما فرنسوا أحبّ «آل» لاحقًا، لربّما شعر بالذنب، لا نعرف، نعرف أنّه في وصيّته التي نُفّذت عام ١٧٩٥ أوصى بتحرير مارث وبقطعة أرض لها ميراثًا. لربّما لم يكن «وحشًا» في النهاية. لكن لربّما تسرّعتُ، إذ لاحقا تزوّجت مارث من جوزيف ليسبيرانس أحد العبيد السابقين الذين أطلقهم فرنسوا من العبوديّة. هل أحبّت مارث جوزيف مع أنّه لم يكن يحقّ لها أن تعشق إلاّ فرنسوا؟ لا نعرف. لكن بالتأكيد لم تكن مع فرنسوا لأنّها لم تكن حرّة. بحرّيتها اتّخذت جوزيف حبيبا، نعرف إذا أنّنا لا يمكننا أن نتأكّد من حبّها إلاّ لجوزيف، لأنّها معه كانت قادرة أن تقول لا ولكنّها قالت نعم.

عام ١٨٧٠ توفّى الله «آل بويسّي» التي نامت طويلاً تحت جلد مارث تيستاس، وغبار السماوات – لا شكّ – أضاء قدميها الصغيرتين؛ ولربّما رفعها الله على كتفيه فوق العرش وأسرّ لها بسرّ أو آخر، ولربّما أدمعت أخيرا «آل» من الفرح. بعد وفاتها، صار حفيدها فرنسوا دينيس ليجيتيم رئيسا لجمهوريّة هايتي بين عامي ١٨٨٨ و١٨٨٩. أمّا الحضارة فقد تابعت بين القرن السابع عشر وبداية التاسع عشر ترحيل مائة وخمسين ألف إنسان مستعبد عبر مرفأ بوردو.

أخيرًا، في ٩ أيّار ٢٠١٩ وضعت مدينة بوردو لمارث تيستاس (وليس لـ «آل») تمثالا، أمامه قيدٌ مكسور. قد يكون قيد «آل بويسّي» كُسِرَ، وقيد فرنسوا أيضا قد تكون كسرته الوصيّة، يتساءل دمي هل كُسِرَ النظام العبوديّ؟ أتساءل لأنّ في العالم العربي (ولنترك، رجاءً، العوالمَ الأخرى للحظة) المحشوّة بالدين حشوًا، مئات الآلاف من مارث تيستاس، مسلوبات جوازات السفر في نظام الكفالة العبوديّ، تعاملن بنظام عمل بلا شفقة، وأحيانا يَتَّخَذونهن مئات آلاف الـ«فرنسوا» «عشيقات» دون موافقتهنّ، تخضعن للتهميش، ولا تبلغهنّ وصيّة رحمة إلاّ نادرا، وأحيانا كثيرة يتلقّف رقابهن حبلٌ ما، أو تتلقف دمائهنّ أرضٌ غريبةٌ انتظرتْ تحت الشرفات طويلا أجسامهنّ الطريّة إذا ما هبط في نفسوهنّ وحش الليل بعدما هبطت على أجسادهن وحوش القلوب الحجريّة.
هل نرى آل/مارث التي حولنا، هل نحرّرها؟ هل نحرّر اسم الله من ضيق قلوبنا ونفاقنا؟
 
خريستو المرّ
​
0 Comments

الأضحى

8/11/2019

0 Comments

 

المقالة الأصليّة
الأضحى
الأحد ١١ آب/أغسطس ٢٠١٩

​لم يأت إليك أحد يا الله، بل أنت أتيت إلينا، في كلمتك. وكلمتك كانت أضحية منك كي نراك، أو نرى الطريق إليك، وأنت الطريق. وما أحببناك إلاّ لأنّك أنت أحببتنا أولا، كما قال إنسان أحبّك.
"اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك". وكأنّك أردت أن يمتدّ إبراهيم إلى خارج القبيلة، إلى خارج صلة الدم والأرض، تلك الرابطتان البدائيّتان التي نبدأ بهما تواصلنا الإنسانيّ، واللتين إن وقفنا عندهما أبقتانا أمام مرآة ذاتنا الجماعيّة: عائلتنا ومواطنينا.
وخرج إبراهيم، عبر عائلته وأرضه إلى أرض الله، إلى اللقاء بك يا الله، "نسي ما هو وراء وامتدّ إلى ما هو أمام" ساعيا إلى أفقك في القلب. تجاوز إبراهيم جذور تاريخه الماضي (العائلة والأرض) ولكن بقي أمامه تاريخه المستقبليّ: ابنه. لربّما أنت أردته أن يخرج هذا الخروج الأخير، هذا العبور الممزّق من جذور المستقبل، أو لربّما كان هذا ما فهمه. وتخلّى إبراهيم عن آخر جذوره، ابنه، جذره الذي في المستقبل. نوى إبراهيم أن يتخلّى، نوى أن يلاحقك، أن يجتاز بحر موت كلّ شيء بموت ابنه، وأن يغوص في معموديّة العراء المطلق. أوقَفهُ "ملاك الربّ" يقول الكتاب، فضحّى بِكِبْش.
بهذا صار إبراهيم نموذج العابر والغريب، المتوجّه إلى "المدينة الباقية" الخبيئة خلف المدينة الجميلة-القبيحة التي في هذا العالم، الغريب المتوجّه إلى مدينتك التي أنت تريه إيّاها.
قد يذبح المسلمون اليوم شاةً، ويردّدون رمزيّا عمل ابراهيم، وقد احتفل المسيحيّون منذ أشهر بأضحية المسيح على الصليب؛ ويبقى الرمز قاصر عن ترداد الحقيقة حتّى يُعاش في اللحم والعظم، حبًّا كبيرا لله، وخروجا من العشائر والأوطان للانضمام إلى قافلة الغرباء، المحبّين لله وللعالم؛ قافلة المتوجّهين إلى أرض الله، تلك التي تتفتّح هنا زهرةً برّيةً في مدينة الجوعِ الكبير إلى الجمال والحبّ والحرّية.
أريد أن أضحّي مع المسلمين. هل ننحر جميعا بالحبّ أحقاد قلوبنا لتضيء فتغدو قرابينَ وأضاح ٍ نتبادلها بالمودّة والرحمة؟ بأضحى القلوب هل "نولد من فوق" فصحًا سرّيا يعمّد هذا العالم بالأمل والطراوة؟ هل نعبر هكذا معا إلى ملكوت الله؟
إن نحرنا خطايانا الفرديّة والجماعيّة كنّا انقلابا على حكّام العار الذين يوجدون بتفسّخنا، وبذلك نتغيّر لنفتح لله نافذة ليغيّر ما فينا. لحم الأضاحي رمز، هل نضحّي بتعب أجسادنا فنعمل معًا لتتجاوز هذا الظلام؟ ويمرّ الأضحى والقلب في فلسطين، ويَعْبُر الفلسطينيّون بلحمهم ودمهم هوّة حقد التمييز العنصريّ؛ بشجاعةٍ يحدّقون بسكّين الجلاّد، وتُسفَكُ دماؤهم شهادةً لرغبتهم بالعبور إلى ملكوت الفرح والحرّية. هم يشتركون في أَضحية المسيح، فهي أضحية كلّ بريء معلّق على خشبة الرذل والقتل والوِحدة الكبيرة.
ألا قبل الله قلوبنا جميعا إن بذلنا تَعَبَنا وعَمَلَنا لأجل الذين يقدّمون وحدهم أجسادهم وحياتهم أضاحي للحقّ والحياة: فقراء لبنان، مهجّري سوريّا، ومشرّدي فلسطين، هم مضمومون إلى قلب الله ولن نستطيع أن ننضمّ إليه إلاّ بالعبور معهم، غرباءَ عن كلّ أرض وكلّ شعب، ومواطنين، بالحبّ، في كلّ أرضٍ وفي كلّ شعب. 
​
​خريستو المرّ
0 Comments

مسيحيّة مغتربة ومغرّبة؟

8/6/2019

0 Comments

 

المقالة الأصليّة
مسيحيّة مغتربة ومغرّبة؟
الثلاثاء ٦ آب/أغسطس ٢٠١٩​

​و"روحُ الرَّبّ علَيَّ، لأنَّهُ مَسَحَني لأُبَشّرَ المَساكينَ، أرسَلَني لأشفيَ المُنكَسِري القُلوبِ، لأُناديَ للمأسورينَ بالإطلاقِ وللعُميِ بالبَصَرِ، وأُرسِلَ المُنسَحِقينَ في الحُرّيَّةِ"(لو 4: 18) بهذه الكلمات التي تنضح بالحرّية أعلن يسوع تدشين مهمّته بين البشر. وقد ذكّر بولس المؤمنين لاحقًا: " دُعيتُمْ للحُرّيَّةِ" (غلاطية 5: 13)، فـ"حَيثُ روحُ الرَّبّ فهناكَ الحُرّيَّةٌ" (2كورنثوس 3: 17). الحرّية هنا هي حرّية من الأسر والانسحاق، وهي حرّية في الروح الذي يحرّر من الخطيئة وينمّي الإنسان في المحبّة. يمكن بالطبع التأمّل بمعان عدّة للحرّية، من الحرّية الداخليّة من الخطيئة، إلى الحرّية من أسر الحرف لأنّ الحرف يقتل أمّا الروح فيحيي، إلخ. ولكن مهما كان من أمر فإنّ يسوع المعلّق على الصليب يوضح لنا وجهَ الله الأصفى، يوضحه محبّة تحترم حرّية الإنسان حتّى الموت.
إنّ المرء يعجب أنّ الكنيسة الرسميّة ليسوع المسيح الذي نطق بكلمات التحرير تلك ومات على الصليب، وقفت مرارًا وتكرارًا عبر التاريخ موقف عداء من الحرّية الإنسانيّة (ولسنا نتكلّم هنا عن "حرّية" الإنسان بأن يعتدي، بل عن حرّية الضمير والتفكير والتعبير) وبأفضل الأحوال نظرت إليها نظرة ريبة لتقف عمليّا موقفا مناهضًا ومكبّلاً لها، تحت غطاء الخوف من "الكبرياء" وضرورة "الطاعة"، إلى آخر الأعذار التي يعرفها المهتمّون بالشأن الكنسيّ،  متناسين أنّه إن كان ضلال الحرّية ممكنًا فضلال التواضع كذلك ممكن، إذ يمكن للتواضع الظاهريّ أن يكون كبرياءً مبطّنًا، وللطاعة أن تكون خنوعًا وجبنًا. إنّ المسيح قد افتدى الإنسان كلّه وحتّى حرّيته التي هي أيضا مدعوّة أن تتجلّى، ويتساءل المرء كيف يمكن لأناس يخشون الحياة الإنسانيّة - ومنها الحرّية - لهذه الدرجة التي يبديها الكثيرون في الكنيسة، أن يكونوا مؤمنين في العمق بالتجسّد وبتجلّي الخليقة.
لكن كنيسة لا تحترم الحرّية الإنسانيّة (طالما هي لا تعتدي على حياة إنسان آخر) هي كنيسة غريبة عن سيّدها لأنّ سيّدها احترم هذه الحرّية؛ لهذا مهما كان موقف المسيحيّات والمسيحيّين وممثّلي الكنيسة الرسميّين من أمرٍ أو آخر فهم ملزمون باحترام حرّية الناس لتبقى الكنيسة كنيسة، فهويّة الكنيسة تنبع من التصاقها بسيّدها الوحيد، وسيّدها قَبِلَ حرّية الناس حتّى عندما انقلبت ضدّه وقتلته؛ فإنّ محبّته انتصرت في النهاية، وبمحبّته وقيامته تنتصر كنيسته قائمةً لأنّ أبواب الجحيم لن تقوى عليها. وقد سار الشهداء الأوائل في الكنيسة مسار يسوع فقبلوا موت الشهادة إن كان لا بدّ منها في الاضطهادات ضدّهم؛ ولنذكر أنّهم استشهدوا عندما اضطُهِدوا وليس عندما اضطَهدوا.
الكنيسة يمكنها أن تستوحي طريقة تصرّفها مع من يديرون لها الظهر من الطريقة التي تصرّف بها يسوع مع من يديرون له ظهرهم. لم يحاكم يسوع هؤلاء بل خاطبهم وخالطهم ولو أنّه واجههم دائما بحقيقتهم. لم يحاكم يسوع الناس، بل أنّ صليب يسوع هو "محاكمة المحاكمة" كما قال القدّيس مكسيموس المعترف. يسوع لا يحاكم بالمعنى الحرفيّ للكلمة، بل أنّ الإنسان هو الذي يحكم على نفسه بنفسه برفضه أو قبوله طريق المحبّة بحرّية، فمحبّة الله هي هي ولكنّها تُعاشُ جحيما عند الذين يرفضونها وفرحا عند من يقبلونها فـ"الحبّ [الإلهيّ] يعمل بطريقتين مختلفتين، فإنّه يصبح عذاباً في الهالكين وفرحاً في المطَوَّبين" كما يقول القدّيس إسحق السرياني.
يعبّر ديونيسيوس الأريبوباغي عن حنان يسوع تجاه من يدير له الظهر قائلاً "أوَ لا يتقرّب يسوع بحبٍّ من الذين يديرون له الظهر، ويحارب معهم، ويناشدهم ألاّ يحتقروا حبّه، وإن لم يقابلوه سوى بالاشمئزاز وبقوا صُمًّا أمام نداءاته، ألا يُصبح هو مُحاميًا لهم؟". يسوع يحامي عن الذين يرفضونه، يتابع مخاطبته لقلوبهم وعقولهم ويبقى مصلوبًا على حرّية الإنسان التي لا قد تسير طريق المحبّة، ولكنّ التي بدونها [الحرّية] لا يمكن للإنسان أن يحبّ فعلاً: إنّ قدرة حرّية الإنسان أن تقول "لا" هو الذي يجعل من قولها "نعم" معنى. هذه الحرّية التي يمكنها أن تقول لا، هي صليبٌ ليسوع، ولهذا يسوع "هو حمل الله المذبوح منذ انشاء العالم"، كما يقول كتاب الرؤيا. من واجب الكنيسة أن تكون بالفعل "جسد" يسوع وامتداده في هذا العالم، فتخاطب القلوب وتحاجج العقول، وقد تقول أنّ شرط تحقيق ملء الحرّية هو في المحبّة كما أنّ شرط تحقيق المحبّة هو في الحرّية، ولكنّها تبقى محامية لمن يرفض يسوع ويرفض ما تقول.
هويّة الكنيسة هي أن تحبّ بمحبّة يسوع لكي تجذب إليه الناس، لا يمكنها أن تكون قاهرة لحرّياتهم في ما له علاقة بما يؤمنون به، وما يعبّرون عنه، وطريقة حياتهم. لها أن تحبّهم دون قهر على حسب قلب الله، فإنّ اللهَ "في محبّته الكبيرة، لم يرد أن يُكرِهَ حرّيتنا، مع أنّ لديه القدرة على ذلك، بل تركنا نأتي إليه بواسطة محبّة قلوبنا فقط"، كما يقول القدّيس اسحق السرياني.
في هذا الإطار، ما علاقة الكنيسة بالدولة بالضبط؟ ينبغي للكنيسة، أن تحترم الحرّية لا أن تدير الدولة، وخاصّة ألاّ تديرها بهدف استعمال وسائل القهر، بهدف الإكراه، وكسر حرّية الضمائر. إن كان من مخالفة لقانون فالدولة هي التي تتدخّل لا الكنيسة. الدولة هي التي تشرّع. وإن كان من تدخّل للكنيسة فهو في حالة القوانين الجائرة (قوانين تكسر حرّية التفكير والتعبير...) عندها يجب للكنيسة أن تعلّي صوتها ضدّ تلك القوانين.
الإيمان يتطلّب الانتباه والسهر. قد يظنّ المسيحيّون أنّه منذ تنصّرت الإمبرطوريّة الرومانيّة مع الامبرطور قسطنطين، اقتحمت الكنيسة ميدان السلطة ومَسْحَنَتْها، عمّدتها، لتكون في خدمة مقاصد الحرّية والمشاركة؛ لكنّ الخوف هو أن تكون السلطة وشهوة السلطة، منذ قسطنطين، قد اقتحمت الكنيسة وروّضتها لخدمة مقاصد السلطة؛ والدليل على صحّة هذا الخوف أنّ الرهبنة، في جانب منها، كانت ردّة فعل تاريخيّة على دهرنة الكنيسة بعد قسطنطين.
مسيحيّة تحترم وتصون الحرّية فيها، وحولها، هي مسيحيّة مخلصة للإنجيل، أمّا المسيحيّة التي تدير ظهرها لدعوة المسيح للحرّية وتدير ظهرها للمحبّة المحاوِرة، فيخشى أن تكون مغتربة عن يسوع، وأيضًا مغتربة عن الناس ومغرِّبة لهم.
عندما تتسأل مطلق أيّ كنيسة لماذا هجرها الشباب، لربّما كان عليها أن تجد الجواب في مرآة الحرّية التي أحبّها يسوع للناس وكان هو عليها، عليها أن تقف أمام تلك المرآة وأن تحدّق فيها... مليًّا.
​
​خريستو المرّ
0 Comments

    الكاتب

    خريستو المر

    الأرشيف

    June 2022
    May 2022
    April 2022
    March 2022
    February 2022
    January 2022
    December 2021
    November 2021
    October 2021
    September 2021
    August 2021
    July 2021
    June 2021
    May 2021
    April 2021
    March 2021
    February 2021
    January 2021
    December 2020
    November 2020
    October 2020
    September 2020
    August 2020
    July 2020
    June 2020
    May 2020
    April 2020
    March 2020
    February 2020
    January 2020
    December 2019
    November 2019
    October 2019
    September 2019
    August 2019
    July 2019
    June 2019

    Categories

    All

    RSS Feed

 ليس من حبّ أعظم من هذا : أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه: يسوع المسيح
  • الصفحة الرئيسة
  • كتب
  • محاضرات
  • الإيمان والحياة اليوميّة
  • فلسطين
  • التزام شؤون الإنسان
  • الإيمان والثقافة
  • كلمات
  • خريستو المرّ
  • مواقع صديقة